حالة شلل هستيري:
أدخلت (كيت ف )
وهي فتاة شديدة الجاذبية في الثالثة عشرة من عمرها إلى المستشفى لإصابتها ” بشلل جزئي في الساق اليسرى و بعصبية مسرفة وفقد واضح في الشهية ” .
وقد حدث قبل هذا التاريخ ببضعة شهور حين كانت في المدرسة أن “ارتمت ساقها اليسرى فجأة و أصابها التنميل و أحست بما يشبه وخز الدبابيس والإبر”
فلزمت الفراش في بادىء الأمر ثم استعملت العكاز بعض الوقت وأخيراً
صارت إلى شفاء جزئي خلال شهور الصيف.
ولكن عندما بدأت المدرسة من جديد عادت الأعراض إلى الظهور فأُحضرت إلى المستشفى ؛
وقد أظهر الفحص الطبي المدقق أنها لا تعاني من مرض أو اضطراب عضوي بالجهاز العصبي يمكن أن يفسر حالتها
وقد ألقت سلسلةٌ من الأحاديث مع الأخصائي النفسي
الضوءَ على التاريخ الذي أدى إلى إصابتها ،
فبعد تردد كثير ذكرت وهي دامعة العينين قصة موقف ثلاثي يشمل والديها.
فمنذ ثلاث سنوات وقعت أمها في حب أحد نزلاء المنزل وهربت معه ولكن أباها وإخوتها وجدوا الأم و أعادوها إلى البيت.
ثم أعقب ذلك
ليال عدة.
مشاهد عنيفة فاحشة إذ كان الأب يكثر من معايرة الأم وكانت هي بدورها تتهمة بالخيانة.
وقد استجابت “كيت” لهذه المناظر بالبكاء والصلاة وشعرت بأنها فقدت كل ثقتها بوالديها المحبوبين ثم أعقب ذلك مشاجرات أخرى بعض الوقت ؛ ولكن الوالدين استطاعا في النهاية أن يحافظا على هدوء خارجي مراعاة لأبنائهما.
على أنّ كيت ظلّت تفكّر في الموقف وبدأت تتجنّب صحبة غيرها من الأطفال ، فكانت كثيراً ما تبقى بغرفتها أثناء “الفسح ” حتّى لا تواجه غيرها من الفتيات .
وممّا هو جدير بالذّكر أنَّ شلل السّاق ظهر قبيل إحدى ” الفسح” وفي سلسلة طويلة من الأحاديث استغرقت بضعة شهور استطاع السيكولوجي أنْ يجعل الفتاة تسرد المرة تلو الأخرى قصة الصّراع الذي كان قائماً بين والديها.
وتدريجياً توصلت كيت إلى قبول هذا الصراع على أنه نكبة وقعت كلّها في الماضي فلم يعد من شأنها إثارة الخوف .
و قد أدى تمثيل الخبرة وقبولها إلى زوال أعراض المرض.
_ تأويل الهستيريا:
هناك أمران بحاجة إلى التّغيير في حالة الهستيريا التّحولية: الأوّل مصدر الاضطراب أو مصدر تفكّك الشّخصية .. والثّاني منشأ الأعراض التي تظهر في حالة بعينها…
ومن المصادر العامة للتفكّك نشوء إرجاع غير منسجمة ومتصارعة إزاء موقف ما ؛ وهذا واضح تماما في حالة “كيت ف ”
فقد تعلّمت في الفترة المبكّرة في حياتها أن تحب والديها وأن ترى فيهما مثلاً أعلى ، ثم إذ بها تجدهما الآن غير أهل لذلك ، ثم هي عليها
أن تعيش معهما وأن تبدي لهما الاحترام من الظاهر ولكنّها في مثل هذه الحالة الانفعالية العميقة الغامضة كانت تشعر إزاءهما بالتقزز والنفور وعدم الثقة ؛
وبدا أنه كان عليها أنْ تتعلّم كيف تفصل بين سلوكها الخارجي واتجاهاتها الانفعالية ؛ وأنْ تُفكّر بطريقة وتسلك طريقة أخرى ؛
وهذا هو لبّ التّفكك: نشوء استجابة غير متماسكة وجزئيّة إزاء موقف.
أمّا الأعراض الخاصة في حالات الهستيريا فقيمتها أنّها ميكانزمات دفاعية وأنّها تنشأ بمثابة توافق جزئي وإنْ كان غير واف بالغرض ؛ فمثلاً أرادت كيت أن تتجنّب الاتصال الاجتماعي في المدرسة خلال فترات الفسحة ..
وكانت قد لجأت في سبيل ذلك إلى كثير من الأعذار ؛ فجاء شلل السّاق بمثابةِ عُذرٍ مُتقن للانسحاب من الجماعة فاختارته أو ” تعلّمته”
على هذا النّحو.
وأجازت الشخصية المفكّكة هذا الحل غير العقلي.
إنّ العجز الجسمي في معظم حالات الهستيريا يوحى به ما قد يعانيه المريض لفترة وجيزة من اضطرابات جسميّة حقيقيّة.
ومن المُرجّح في حالة ” كيت” أنّ ساقها خدرت ” خدلت” هي ظاهرة ذائعة تنتج من الضّغط ويخبرها كلّ منّا من حين لآخر .. ومعظم الناس ينظرون إلى خدر ” خدل” الساق بهدوء فيدوسون بها أو يحركونها حتى تعود إلى حالتها الطبيعية ؛ أما الهسيترى فإنه يُخشى أسوأ العواقب ولكنّه في الوقت نفسه مستعد للاعتقاد بأن الساق مشلولة حقاً ؛ هذا إلى أن الشّلل يحقق غاية توافقية ؛ ومن ثمّ المبالغة فيه واستخدامه كميكانزم دفاعي.
و الشخص الهستيري صادق كل الصدق في الاعتقاد بمرضه ؛ فهو بالنسبة له ليس عجزاً ” متصنعاً ” أو ” وهمياً ”
ولكنّه علّة حقيقية تماماً وإن كانت تنشأ من أسباب نفسية أما مصدر العرض وطبيعته وفائدته ، فإنّها تظل لا شعورية تماماً بالنسبة للفرد ؛ إذ هو قد عثر على العرض بالمحاولة والخطأ الأعمى دون أن يدرك دلالته..
فإذا اكتسب الاستبصار بمنشأ العرض ووصل إلى تسوية الصراع الذي أدى إليه أو التوافق معه اختفت حالة العجز عادة.
د.عبدو حسين عبدالكريم
طبيب استشاري في الطب النفسي المرضي
Discussion about this post