قصة تمهيدية لسلسلة بعنوان “الوجوه التي تمرّ عبرنا”.
لم تكن تعرف خالتها جيدا. في الحقيقة، لم تكن تعرف إن كانت تلك المرأة الغريبة التي يهمسون باسمها في العائلة موجودة حقا، أم محض خيال تنسجه النساء حين يتحدثن عن “التي ذهبت ولم تعد”، “التي تعرف أشياء لا تُقال”، “التي لم تُرزق بطفل لكنها تركت إرثا ثقيلا”.
وحين وصلها ذلك الطرد البني، المختوم بخيط أحمر، لم يخطر في بالها أنه سيكون مختلفا عن أي شيء آخر ورثته في حياتها.
لم يكن فيه مال، ولا مجوهرات، ولا أوراق رسمية…
كان صندوقا خشبيا صغيرا، عليه نقش باهت لكفّ مفتوحة، وفي منتصف الكفّ عين مغمضة.
داخل الصندوق، لم تجد سوى سطرٍ واحد مكتوب بخط غامق:
“لا تفتحيه قبل أن تصمت الأشياء، ويكون داخلك هو الخارج.”
ما الذي يعنيه ذلك؟
لم تفهم… لكنَّ قلبها فهم.
ولم تفتحه، حتى جاءت تلك الليلة.
كان الليل ساكنا.
لا أصوات سيارات، لا رسائل، لا أفكار مزعجة.
كأن الهواء نفسه توقف ليسمع.
جلست على الأرض، وضعت الصندوق أمامها، وسألت نفسها:
هل هذا ما كانت تنتظره خالتي؟
ولماذا الآن؟
لم تجب، ولم تنتظر.
فتحت الصندوق.
في داخله، كانت هناك بطاقات.
اثنتان وعشرون بطاقة، مرسومة يدويا، بورق سميك وملمس دافئ غريب.
لكنها لم تكن بطاقات عادية.
أول بطاقة أمسكت بها كانت تحمل الرقم 0، وصورة شاب يبتسم بينما يسير نحو حافة جبل، وفي يده وردة.
ما إن لمستها، حتى تغيّر الضوء في الغرفة.
شعرت بنسمة هواء تمرّ من داخلها، لا على جسدها، بل من داخل عظامها نفسها.
وحين رفعت نظرها، كان هناك طفل صغير يقف قرب الباب المفتوح، يبتسم.
لم يتكلم. فقط نظر إليها، ثم قفز من فوق عتبة الباب، واختفى.
ثم تحرّكت البطاقة الثانية وحدها.
ورأتها تتوهّج.
على سطحها، ظهر رجل بقبعة عريضة، يقف خلف طاولة، وأمام أدوات: كأس، عصا، سيف، وقرص ذهبي.
ظهر رجل غريب في الغرفة، لا تعرف كيف دخل، لكنه كان هناك.
فتح يده اليمنى نحو السماء، واليسرى نحو الأرض، ثم قال بهدوء:
“كما في الأعلى، كذلك في الأسفل… أنتِ الممرّ.”
ثم اختفى.
واحدة تلو الأخرى، بدأت البطاقات تضيء وتتكشف.
ومع كل بطاقة، كانت الغرفة تتغير، ويتبدل إحساسها بجسدها، وكأنها تُولد مجددا، أو تتذكر شيئا نسيته منذ قرون.
ظهرت امرأة خلف ستار… لم تتكلم، فقط نظرت.
ثم أم تمشي فوق الحشائش، وحيث تسير تنبت الزهور.
ثم رجل يضع تاجا من الحجر ويقف على جبل، عينيه لا ترفّان.
وظهر عاشقان في مرآة، ثم عربة تمرّ دون خيول، وفتاة تضع يدها في فم أسدٍ دون خوف.
مرت أمامها نجمة تسقط في كفّها، ذئبان يعويان أمام قمرٍ واحد، وشمس تدفئ قلبها من الداخل لا من الخارج.
ثم جاءت بطاقة الموت… الموت الذي يحرر لا يخيف.
بدت كل بطاقة كأنها كائن حيّ، يتحدث معها بالرموز وبالماء الذي يصب من كأس إلى آخر وكذلك بالصمت.
حتى جاءت البطاقة الأخيرة…
لكنها لم تكن مثل الأخريات.
كانت مغطاة بورقة بيضاء، وحين أزالتها، وجدت نفسها مرسومة هناك.
هي، لكن في هيئة لم تصلها بعد…
عيناها أكثر هدوءا، يدها تمسك شيئا لا تراه.
كُتب على ظهر البطاقة:
“أنتِ الورقة التي تنتظر نفسها.
لا قصة تبدأ إلا بك.”
في تلك اللحظة، أغلق الصندوق من تلقاء نفسه.
عادت الغرفة كما كانت
.أما هي فلم تفعل
على الأرض، بقيت بطاقة واحدة فقط أمامها.
كانت فارغة.
وكانت تعرف، دون أن يخبرها أحد،
أن القصة قد بدأت.


























































