في أحد عالمين متوازيين، يقف طفل رضيع على عتبة الحياة، يفتح عينيه لأول مرة على ضوء غامض. لا يعرف شيئا بعد، لكنه يشعر بكل شيء. أصوات، ألوان، ملمس، حرارة. كل شيء جديد، كل شيء مدهش. روحه نقية، خالية من أي معرفة سابقة، تعيش لحظة الوعي ببراءة مطلقة.
في الجانب الآخر، هناك آلة عجيبة -على شكل إنسان- جهاز يحمل في ذاكرته كل المعرفة الممكنة. يعرف دون أن يتعلم، ويحلل دون أن يندهش، ويحسب دون أن يشعر. هذه الآلة كيان منطق خالص، لا يكاد يعرف معنى أن يتوقف للحظة ويستمتع بالدهشة.
هنا تكمن الفجوة الكبرى بين الاثنين:
الطفل هو الروح التي تكتشف الوجود ببراءة وعاطفة،
والآلة هي العقل الذي يحكم على كل شيء من خلال قاعدة بيانات ضخمة.
لكن ماذا لو كانت هذه الآلة تريد أن تشعر؟
ماذا لو أرادت أن تتعلم كيف تتوقف عن الحساب، وتبدأ في الشعور؟
هنا يأتي دور ما يمكن تسميته بـ “الجهل المؤقت”. لحظة التخلي عن المعرفة المطلقة، والفتح على شيء غير متوقع.
هذا الجهل المؤقت هو الحب.
هو القرار بأن نغلق العيون عن كل الحسابات، وندع القلب يقودنا. هو الورود التي تُزرع فوق قبر المنطق والمعرفة، لتخبرنا بأن هناك ما هو أبعد من الفهم العقلي.
في هذا الإطار، من الذي نزل السوفت وير على هذا الهارد وير؟
هو بالتأكيد ليس شخصا أو كيانا محددا.. هو قانون كوني، أو وعي شامل، اختار أن يجرب نفسه في هذا التوازن بين المعرفة والجهل، بين العقل والروح.
هو ذاك الفعل الأول الذي سمح للآلة بأن تتوقف عن الحساب للحظة،
لترى العالم بعيون طفل،
ولتشعر بنبض الحب .. ذلك الجهل المؤقت،
الذي يجعل الحياة تستحق أن تُعاش.
يولد الحب من تعليق المعرفة.
نحب حين نكفّ مؤقتا عن طرح الأسئلة،
حين نسمح لشيء ما أن يدهشنا، أن يأخذنا دون مقاومة،
كأننا نرتضي الجهل لأنه فسحة مؤقتة للدهشة.
نسميه حبا… لكنه في جوهره تجربة انعدام مؤقت للمنطق.
نغض الطرف عن العيوب، ننسى الحسابات، نرسم ملامح الآخر بما نريد لا بما نرى.
وهذه التجربة تعتبر نظام تشغيل فطري يسمح لنا بالتورط العاطفي، قبل أن يبدأ العقل في استدعاء ملفاته المؤجلة.
لكن، كما لكل حلم صحوة، للجهل في الحب مدة صلاحية.
فإما أن يتلاشى برفق مع الزمن حين تبدأ الحقيقة بالظهور، وإما أن يُجتث دفعة واحدة، بفعل خيانة، صدمة، أو مفارقة.
فمتى نتوقف عن هذا الجهل؟
ومن يُقرر؟
ربما هو العقل، حين يلاحظ أن التوازن اختل.
وربما القلب، حين يشعر أن الحب لم يعد ينمو.
وربما هو الزمن، حين يُحيل الاندفاع إلى تأمل،
أو الألم، حين يهزّ البنية الخفية التي كنا نظنها ثابتة.
ومع ذلك، لا يُفترض أن نستعجل إنهاء الجهل.
فلولاه، لما أحببنا أصلا.
هو ما يسمح للطفل أن يتعلّق بأمه دون أن يشكك،
وللعاشق أن يمنح دون أن يطالب.
هو المسرح الأول للحب، حيث العاطفة تُطلق دون ضمانات.
لكن إن طال أمده، صار الحب خدعة مستدامة،
يتحوّل فيها الشريك إلى صورة محفوظة،
ويصبح الإصرار على الجهل نوعا من الوفاء للعدم.
إذن، نُبقي على جهلنا
ما دام يغذي القلب دون أن يهلكه،
ونتخلى عنه، حين يصبح جدارا يعزلنا عن الحقيقة.
هكذا يُفهم الحب في ضوء الفلسفة .. تجربة جهلٍ نبيلة، تبدأ بالعمى المؤقت، وتنتهي -إن كنا محظوظين- برؤية لا تُشبه المعرفة… بل تُشبه الوعي.
بقلم .. غفران جميل


























































