في عالم خال من المعنى تتجول شخصيات مثيرة للجدل في مسرح العبث حيث تتلاشى الحدود بين الواقع والخيال.
ومن المسرحيات المتسمة بالغموض وعدم وجود حلول تقليدية مسرحية “في انتظار جودو” للكاتب الايرلندي صمويل بيكيت، والتي تدور حول شخصيتين رئيسيتين هما فلاديمير المعروف بـ ديدي، وإستراجون المعروف بـ جوجو، وهما في وضع انتظار دائم لشخص يُدعى جودو، كما تظهر في المسرحية أيضًا ثلاث شخصيات ثانوية هم بوتزو هو رجل ثري يُظهر سلوكًا متعجرفا، ولاكي خادمه الذي يظهر في حالة من الاضطراب والضياع، و فتى يخبر فلاديمير وإستراجون أن جودو لن يأتي اليوم ولكن حتما سيأتي غدًا.
تجمع هذه المسرحية بين الفكاهة السوداء والرمزية العميقة، مما يجعلها مادة غنية للتحليل الأدبي وغير الأدبي، و واحدة من الطرق المثيرة لفهم هذه الشخصيات بشكل أعمق هي من خلال ربطها بالكواكب والأساطير.
ومما يفتح الباب على مصراعيه لهذا التحليل الغير تقليدي هو وجود القمر في المسرحية بالرغم من ندرة العناصر، فلا نجد إلا طريق وشجرة وصخرة والقمر.
بالإضافة إلى أن بيكيت استوحى مسرحيته تلك من لوحة للرسام الألماني كاسبر فريدريك وهي بعنوان “اثنان يتأملان القمر”، لذلك سنعيد التأمل بشخصيات وأحداث المسرحية بعدسة استرولوجية وميثولوجية تمكننا من رؤية جديدة للنص.
وبرؤيتي هذه تمثل كل شخصية كوكبا معينا لأنه يشابهه في الصفات الظاهرية أو الباطنية أو كليهما.
فلاديمير/ ديدي
يعكس فلاديمير سمات كوكب المشتري الكوكب العملاق والذي يرتبط بالحكمة والتفاؤل والتوسع والأديان والفلسفات والمسمى في الاساطير بإله السماء.
في المسرحية، يظهر فلاديميروهو الأطول والأكبر حجما كباحث عن معنى في حياة مليئة بعدم اليقين، هو الشخصية الدائمة النظر إلى السماء، وتتمحورحواراته حول الدين والفلسفة والوجود مما يشير إلى سعيه لفهم أعمق، وهو ما يتماشى مع سمات المشتري من الحكمة والتفكير الفلسفي.
استراجون / جوجو
بما أن ديدي وجوجو يشكلان القطبية فلا بد أن يكون استراجون هو القطب المقابل للسماء التي يمثلها ديدي (المشتري إله السماء) وبهذا يكون جوجو هو الأرض، ويمكن أن نستدل على ذلك من انشغاله الدائم بحذائه الذي يشير إلى السعي الأرضي على عكس ديدي المهتم جدا بالقبعات أي التفكير الأسمى والأعمق .. فلاديمير يطيل الوقوف بينما استراجون يفضل الجلوس .. وطبعا في الجلوس إشارة إلى الأرض التي نجلس عليها.
كذلك نرى أن أكثرما يهم جوجو هو الطعام والنوم والخوف من الغرباء والاحتماء بالحفر وكل هذا مرتبط بالرحلة الأرضية.
بوتزو
بوتزالشخص الثري الظالم المستبد والمتسلط وصاحب الأرض التي يتواجد عليها ديدي وجوجو يعكس سمات كوكب بلوتو كوكب التحكم والهوس والتحولات العميقة. في المسرحية، يظهر بوتزو كشخصية متسلطة وقوية تتحكم في الخادم لاكي، مما يعكس قوة بلوتو وسلطته المظلمة والتحولات التي يمثلها بلوتوبعد المرور بما يسمى “الليلة المظلمة للروح”، وهذا ما حدث مع بوتزو بالفعل بعد فقدانه لبصره فقد صار أكثر حكمة ويتحدث بطريقة عميقة جدا ما كان ليفهمها هو نفسه قبل مرحلة التحول التي مر بها.
لاكي
الطبيعة الغامضة لشخصية لاكي و التي تبدو غير مفهومة ومعزولة عن الشخصيات الأخرى هي أشبه ما تكون بالكوكب البعيد جداً عن الشمس والمحاط بجو من الغموض والضبابية كوكب نبتون. فعلى الرغم من وجوده الجسدي بين الآخرين، إلا أنه يعيش في عالم داخلي غامض ومعقد.
البيئة القاسية لنبتون تعكس المعاناة والإذلال والضغط النفسي الذي يتعرض له لاكي تحت سيطرة سيده دون اعتراض، بل ويتفانى في خدمته فقط لإثارة الإعجاب وهذا أحد الجوانب المظلمة لكوكب نبتون حسب الأساطير.
نبتون في الأساطير الرومانية والإغريقية هو إله البحار، والماء غالباً ما يرتبط بالعواطف العميقة والأحلام واللاشعور. لاكي، في لحظات نادرة من التعبير، يظهر وكأنه يغرق في سيل من الأفكار المتدفقة بشكل غير منطقي، مما يعكس الفوضى العاطفية والذهنية التي يعانيها، و يمكن اعتبار حديث لاكي الفوضوي بمثابة “تسونامي عقلي” .
الفتى حامل الرسالة
الفتى صغير السن والحجم الذي يأتي برسالة من جودو، يعكس سمات كوكب عطارد الصغير الذي يرتبط بالتواصل والرسائل.
عطارد بالأساطير هو رسول الآلهة و يتجلى هنا في دور الصبي كوسيط لنقل الأخبار والرسائل، هذا الدور يعكس سمات عطارد في تسهيل التواصل ونقل المعلومات،و كذلك الفتى هو الشخصية الوحيدة الصغيرة السن مع التركيز على الفارق العمري بينه وبين الشخصيات الأخرى لأن عطارد يسم من يتصل به بسمة خاصة حيث لا يبدو عليه السن ولا يزداد معه الحجم بعكس ما يفعل كوكب المشتري.
جودو المنتظر
مما لفت نظري في المسرحية هو التركيز على وجود القمر، وهذا ولا شك يدل على غياب الشمس … والشمس التي لم تأتي رغم انتظارها هي جودو.
فهو رغم عدم ظهوره الفعلي في المسرحية، يمثل الأمل والهدف النهائي لشخصيات المسرحية ، وهو ما يعكس رمزية الشمس كالضياء والبهجة والطاقة الحيوية.
وبعد أن تعرفنا على الشخصيات بطريقة مختلفة علينا أن نتعرف على مكان وزمان تواجدهم بذات الطريقة، فمكان كالذي يتواجدوا فيه يُعتبر من أكثر العناصر بساطةً وتجريدًا، مما يعزز الطابع العبثي للمسرحية.
تدور أحداث المسرحية في مكان غير محدد، يبدو وكأنه في الفراغ.. منطقة مهجورة و مقفرة.
المكان في المسرحية عبارة عن طريق غير معبد وصخرة وشجرة، والتي تعد العنصر البصري المركزي في المسرحية، وهي تثير أسئلة حول الوقت والمكان.
أما الزمان فهو غير محدد، وكأن الشخصيات محاصرة في دورة زمنية لا نهاية لها، وكل ما لدينا هو القمرليشير الى نهاية اليوم وبضع أوراق على الشجرة اليابسة في المشهد الثاني لتشير إما على مرور الوقت أو لتدل على الأمل.
يوحي جو المسرحية العام باليأس والفراغ، مع شعور دائم بعدم اليقين والانتظار، ويُعَزز هذا الجو من خلال الحوار المتكرروالذي لا يؤدي إلى أي تطور أو تغيير حقيقي في الأحداث.
أما العاطفة فتميل إلى الشعور بالإحباط والقلق الوجودي، لأن الشخصيات ضائعة وتبحث عن معنى أو هدف، ولكن دون جدوى.
وبما أن تحليلنا اسطوري فسنبدأ باكتشاف المكان اسطوريا من خلال سؤال مهم وهو ..
لماذا لم ينجح فلاديمير واستراجون بالانتحار رغم تكرار المحاولة؟
وللإجابة على هذا السؤال يمكننا أن نستدل بـ :
– الأجواء الكئيبة في المسرحية والزمن المنعدم وتفاصيل المكان القاسية وندرة العناصر وغياب الشمس.
– بوتزو صاحب الأرض هو بلوتو أي هاديس اله العالم السفلي.
– الطعام المذكور في المسرحية هو (الجزر واللفت والثوم) وهي نباتات تنمو تحت الأرض، أي يمكن ربطها بالعالم السفلي.
– بالإضافة إلى عدة تشابهات بين جو المسرحية والعالم السفلي الأسطوري ومنها:
(العزلة والفراغ، الانتظار الأبدي، غياب الزمن، البيئة القاحلة) .
وكل هذا يدل على أن مكان تواجد الشخصيات هو العالم السفلي أو عالم الموتى، وبهذا يكون سبب عدم نجاح محاولات الانتحارهو أن الشخصيات ميتة بالفعل ..
ومما يشير إلى ذلك هو الضرب المبرح الذي تعرض له استراجون في ليلة يسميها بالليلة الماضية رغم تكرارها، ثم أكمل ليلته في حفرة أو خندق على حد تعبيره أي أنه قضاها في القبر.
وإن كان استراجون قد قضى ضرباً فموت فلاديمير هو بسبب مرض الكلى الذي كان يعالجه بأكل الثوم .
وبذلك يكون جلوس استراجون على الصخرة هو زيارة الروح الهائمة لمكان تواجد الجسد الذي فارقته.
شخصية أسطورية تنضم لطابور التكرار العبثي
أكثر ما يشابه الحالة العبثية من الانتظار المتكرر واللامنتهي التي يعيشها فلاديمير وإستراجون هو أسطورة سيسيفوس أو سيزيف، الملك الاغريقي الذي خدع إله الموت فحكمت عليه الآلهة بدفع صخرة إلى أعلى الجبل وما أن يصل بها إلى القمة حتى تتدحرج إلى الأسفل ليعود لرفعها من جديد، أي أنه يعيش حالة من العبث والتكرار اللانهائي تمامًا كما يفعل فلاديمير وإستراجون.
وعلى جانب آخر، إذا أضفنا بعدًا أعمق من خلال الأسترولوجي، قد نرى أن شخصيات المسرحية، مثل النجوم والكواكب في خريطة فلكية، قد تكون عالقة في دوائر كونية محددة مسبقًا، وتسبح في مدارات مرسومة بدقة لتعيد نفسها بلا هوادة.
قد تشير خرائطنا الفلكية إلى مصائر لا يمكن الهروب منها، وكأننا محكومون بالانتظار كديدي وجوجو وكذلك بدفع الصخرة مع سيزيف، ولربما كان أفضل حل لهذه المعضلة هو ما أتى به الفيلسوف والكاتب الفرنسي البير كامو الذي رأى بأنه علينا أن نتخيل سيزيف سعيدا وبسعادته وتقبله لمصيره سيتغلب على قدره البائس، فهو يجد قوته في قبول عبثية حالته والعمل بلا كلل.
وهكذا يتشارك الأدب والفلسفة والميثولوجي والاسترولوجي في رسم صورة شاملة لحالة الإنسان، الذي يبحث عن المعنى في عالم يبدو أنه مصمم على تحدي محاولاته لفهمه والسيطرة عليه.
وبهذا تصبح “في انتظار جودو”، مرآة للوجود البشري بعمقه وتعقيده، حيث تتلاقى القوى الكونية والأساطير القديمة والمصائر المحتومة في إطار واحد يعكس معاناة الإنسان وسعيه الأبدي للمعرفة والتحرر.
فإن كنتَ سيزيف فلربما عليك أن تراقب طريقة تدحرج الصخرة وتغيير مسارها في كل مرة، أو أن ترفع معها ما يعيق تدحرجها لتتحرر وهذا لا يكون الا بالعمل الذي يسبق العلم.
وإن كنتَ استراجون المحب للجزر، فعليك أن تحدد لونه قبل طلبه حتى لا تحطم آمالك على صخرة الواقع القاسي، فحين تأتي من عالم مليء بالاحتمالات ستصدمك صلابة الأفكار المتجسدة.
ومما لا شك فيه أن انتظار فلاديمير واستراجون كان سينتهي لو كان عناقهما بعد معرفة هويتهما، فهما “جوجو وديدي” أي “جو ودي” أي هما معا “جودو الذي ينتظرانه”.
أما بالنسبة لك عزيزي القارئ، فإما أن تقبل بما قرأت أو تكتب بيدك ما أردت أو تنتظر ثم تعيد الانتظار متمسكا بالأمل الذي خلقه الغياب.
Discussion about this post